حصار الهوية.. كيف يستخدم التعليم واللغة والدين كأدوات للسيطرة على التبت؟
حصار الهوية.. كيف يستخدم التعليم واللغة والدين كأدوات للسيطرة على التبت؟
بينما تحتفل بكين وبروكسل بمرور خمسين عامًا على العلاقات الدبلوماسية بين الصين والاتحاد الأوروبي، ألقت ظلال التبت الثقيلة بواقعها القاسي بظلالها على القمة الخامسة والعشرين التي عُقدت في بكين في 24 يوليو 2025، فبدلاً من الاكتفاء بالاحتفاء الرسمي، شدد قادة الاتحاد الأوروبي -وفي مقدمتهم رئيس مجلس الاتحاد الأوروبي أنطونيو كوستا ورئيسة المفوضية أورسولا فون دير لاين- على القلق العميق من انتهاكات حقوق الإنسان المستمرة في التبت.
هذا القلق جاء امتدادًا للدورة الأربعين لحوار حقوق الإنسان بين الاتحاد الأوروبي والصين التي انعقدت في بروكسل في يونيو 2025، والتي ركزت بشكل خاص على حرية المعتقد، وحق التبتيين في اختيار قادتهم الدينيين، دون تدخل السلطات الصينية وهو مطلب متجدد ألح عليه الأوروبيون بقوة.
أزمة روح وهوية
من بين النقاط الجوهرية التي سلطت عليها القمة الضوء، استمرار الصين في التدخل بتعيين الزعماء الدينيين في التبت، لا سيما في مسألة خلافة قداسة الدالاي لاما، ووفقًا لتقارير منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، تعتبر بكين هذا التدخل شأنًا سياديًا، بينما يراه التبتيون تهديدًا مباشرًا لبقاء ثقافتهم الدينية وهويتهم.
ويؤكد الاتحاد الأوروبي أن تعيين خليفة الدالاي لاما يجب أن يتم وفقًا للتقاليد البوذية المتبعة منذ قرون، دون فرض سياسي.
ويشير محللون حقوقيون إلى أن هذه القضية تمثل قلب الصراع بين السلطات الصينية والهوية التبتية، حيث لا يتعلق الأمر بشخص الدالاي لاما فقط، بل بوجود مؤسسة دينية تُعَد حجر الأساس للروح التبتية.
التبت في أرقام
تُظهر التقارير الأممية أن ما يقارب ستة ملايين تبتي يعيشون في منطقة تتمتع رسميًا بالحكم الذاتي، لكنها عمليًا خاضعة لرقابة أمنية صارمة، وكثافة وجود قوات الشرطة والجيش.
بحسب تقرير وزارة الخارجية الأمريكية لعام 2024، تم تسجيل أكثر من 900 حالة اعتقال مرتبطة بممارسة حرية التعبير أو المشاركة في تجمعات سلمية في التبت.
توثق هيومن رايتس ووتش استمرار برامج إعادة التثقيف السياسي، حيث يُجبر مئات آلاف الرهبان والمدنيين على حضور جلسات تروج لسياسات الحزب الشيوعي.
تؤكد تقارير منظمات إعلامية أن 80% من التبتيين تحت سن الثلاثين لم يحصلوا على تعليم بلغتهم الأم بشكل منتظم بسبب السياسات التعليمية الصينية.
تاريخ من الاحتجاج والقمع
أزمة التبت ليست وليدة اليوم، فمنذ انتفاضة عام 1959 ضد الحكم الصيني، والتي انتهت بهروب الدالاي لاما إلى المنفى في الهند، تعيش التبت حالة شدّ وجذب مستمرة، وشهدت العقود التالية موجات متكررة من الاحتجاجات، أبرزها في عام 1989 وفي 2008، حين خرج آلاف التبتيين إلى الشوارع للمطالبة بحرية دينية وثقافية أوسع، فقوبلت تلك الاحتجاجات بحملات أمنية صارمة أودت بحياة العشرات وأدت لاعتقال المئات.
ويصف باحثون حقوقيون التبت بأنها واحدة من أكثر المناطق انغلاقًا إعلاميًا في العالم، حيث يُمنع الصحفيون الأجانب من الوصول الحرّ إليها، وتُحجب وسائل التواصل الاجتماعي وتخضع الهواتف لمراقبة واسعة.
قمع ثقافي ممنهج
أحد أكثر جوانب الأزمة تعقيدًا هو تراجع استخدام اللغة التبتية، خاصة في التعليم الرسمي، ففي السنوات الأخيرة، وسّعت السلطات الصينية من استخدام اللغة الصينية (الماندرين) كلغة أساسية في المدارس، بدلاً من التبتية، وتؤكد منظمات حقوقية أن هذه السياسات تهدد بانقراض تدريجي للغة التبتية، وتفقد الأجيال الجديدة الرابط الثقافي مع تراثهم.
تقول لوتسيانغ دونغ، الباحثة في شؤون التبت لدى منظمة فريدوم هاوس، إن إضعاف اللغة الأم سياسة طويلة الأمد تهدف لإضعاف الهوية التبتية نفسها.
إشارات أوروبية وتساؤلات عن الفاعلية
رغم ترحيب مكتب التبت في بروكسل بتجدد الاهتمام الأوروبي، شدد ممثله ريغزين جينكانغ على أن البيانات وحدها لا تكفي، مطالبًا الاتحاد الأوروبي بوضع معايير واضحة لقياس التقدم، وربط التعاون الاقتصادي مع الصين بتحسن ملموس في الوضع الحقوقي.
ويطرح كثير من الناشطين تساؤلات حول فاعلية الضغوط الأوروبية في ظل العلاقات الاقتصادية القوية بين الاتحاد الأوروبي والصين، إذ يُعدّ الاتحاد أكبر شريك تجاري للصين. وتاريخيًا، نادرًا ما أدى الضغط الدبلوماسي وحده إلى تغييرات جوهرية في سياسات بكين تجاه التبت.
أصوات من الداخل
رغم صعوبة الحصول على شهادات مباشرة من داخل التبت، تنقل منظمات حقوقية شهادات تبتيين فرّوا إلى الهند أو نيبال:
"كنت طالبًا في مدرسة ثانوية، عندما أُغلقت فصول اللغة التبتية، وأُجبرنا على دراسة كل المواد بالماندرين"، هكذا يقول تسيونغ، لاجئ يبلغ 22 عامًا.
راهبة سابقة في أحد الأديرة قالت إنها تعرضت لجلسات إعادة التثقيف استمرت أشهرًا، حيث طُلب منها التوقيع على وثائق تتعهد فيها بعدم اتباع تعليمات الدالاي لاما.
نداء أممي متجدد: حماية الهوية والحرية
دعت مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان في تقرير صدر في أبريل 2025 إلى إنهاء القيود المفرطة المفروضة على حرية الدين والتعبير في التبت، وضمان مشاركة التبتيين في القرارات التي تمس حياتهم الثقافية والدينية.
كما شددت منظمة العفو الدولية على ضرورة الإفراج الفوري عن جميع المحتجزين لمجرد تعبيرهم السلمي عن آرائهم، ووقف برامج إعادة التثقيف.
بين لغة البيانات الرسمية ولغة الألم الإنساني، تبدو أزمة التبت أكثر تعقيدًا من مجرد نزاع سياسي، إنها معركة من أجل بقاء هوية وثقافة كاملة، ففي عصر العولمة والتجارة العابرة للقارات، تقف التبت شاهدة على الثمن الباهظ الذي قد يدفعه شعبٌ صغير دفاعًا عن حقه في الحفاظ على صوته الخاص.